يا نفس قد أزف الرحيل نفخة الصعق
اختلف أهل العلم فمنهم من قال : ينفخ إسرافيل نفختين اثنتن الأولى نفخة الفزع والثانية الصعق فى آن واحد .
وتبنى هذا الرأى الحافظ ابن حجر والإمام القرطبى فى التذكرة وقال : بأن الصعق ملازم للفزع الأكبر ، أى فزعوا فزعاً ماتوا منه ، ولذا فالحافظ والإمام القرطبى قالا : نفختين اثنتين فى آن واحد .
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن كثير والإمام ابن العربى إلى أن اللـه يأمر إسرافيل أن ينفخ فى الصور نفخة الفزع الأكبر ونفخة الصعق ونفخة البعث ، وهذا هو الذى أميل إليه لأن صريح القرآن يقول ذلك فلقد فرق اللـه فى صريح القرآن بين نفخة الفزع ، ونفخة الصعق ، ونفخة البعث ، إذ يقول )وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ( . [ النمل : 87 ] .
وقال )وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ( . [ الزمر : 68 ] .
ثم قال بعدها عن نفخة البعث )ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ( . [ الزمر : 68 ] .
ولقد اختلف أهل العلم فيمن استثناهم اللـه ، منهم من قال هم : الملائكة ، ومنهم من قال : هم جبريل وإسرافيل ومكائيل وعزرائيل وحملة العرش فقط ، ومنهم من قال : هم الشهداء ، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ومنهم من قال : هم الحور العين ، ومنهم من قال : إن نبى اللـه موسى عليه السلام هو المستثنى فى قوله تعالى : فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ( ، واحتجوا على ذلك بحديث صحيح رواه البخارى أنه صلى الله عله وسلم قال : ((أنا أول من يفيق بعد النفخة فإذا أنا بموسى آخذ بالعرش فلا أدرى أكان ممن أفاق قبلى أم كان ممن استثناهم اللـه جل وعلا)) .
ولذا فأنا أقول بأن الجزم بمن استثنى اللـه فى هذه الآية غير دقيق ، إذا كان المصطفى لم يجزم لنبى اللـه موسى يقول فلا أدرى أكان موسى ممن أفاق قبلى أم كان ممن استثناهم اللـه جل وعلا .
فإذا كان المصطفى لم يجزم لنبى اللـه موسى فلا ينبغى لأحد بعد المصطفى من أهل العلم قاطبة أن يجزم لمن استثناهم اللـه فى الآية ، فعلم اللـه لا ينال إلا بالخبر الصحيح عن رسول اللـه صلى الله عله وسلم.
)وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ( صعق أى مات كل حى وبقى الحى الذى لا يموت .
ورد فى حديث الصور الطويل الذى رواه البيهقى والطبرانى والطبرى وابن أبى حاتم وغيرهم ، وللأمانة العلمية التى اتفقنا عليها وأَصَّلناه من قبل فإن الحديث بطوله ضعيف ، ومدار ضعفه على إسماعيل بن رافع ، وهو ضعيف كما قال علماء الجرح والتعديل فى هذا الحديث : ((يأتى ملك الموت للملك فيقول المَلِك لِمَلَك الموت يا ملك الموت من بقى ؟ - وهو أعلم جل جلاله - فيقول : بقى جبريل وإسرافيل وميكائيل وحملة العرش وبقيت أنا ، فيقول الملك ليمت جبريل - لام الأمر - ليمت إسرافيل ليمت حملة العرش ، ويبقى ملك الموت فيأتى للملك فيقول له الملك : من بقى يا ملـك المـوت ؟ فيقـول : بقيـت أنا ، فيقـول الملـك : أنـت خلق من خلقى وخلقتـك لما ترى فمت يا ملك الموت فيموت ويبقى الحق الذى لا يمـوت)) .
سبحان ذى الملك والملكوت ، سبحان ذى العزة والجبروت ، سبحان الذى كتب الموت على جميع الخلائق وهو الحى الباقى الذى لا يموت .
ماتت الملائكة ... مات جبريل ... مات إسرافيل ... مات ميكائيل ... مات ملك الموت ... مات حملة العرش
مات الملوك .. مات الزعماء .. مات الرؤساء .. مات الوزراء ... مات الأغنياء .. مات الفقراء .. مات الصالحون .. مات الطالحون ... مات ذوو الهمم والغايات النبيلة .. مات الجبناء الحريصون على الحياة بأى ثمن .. الكل يموت )كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(26)وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ( [ الرحمن : 26 - 27 ] .
ويبقى الملك فيطوى السموات والأرض بيمينه ويهتف بصوته جل جلاله ويقول أنا الملك ، أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ثم يقول جل جلاله لمن الملك اليوم ؟! لمن الملك اليوم ؟! لمن الملك اليوم ؟! فلا يجيبه أحد فيجيب علىذاته لله الواحد القهار .
يقول جل جلاله : )رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ(15)يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (
[ غافر : 15-16 ].
أين الظالمون ؟! أين الطالحون ؟! أين الصالحون ؟! أين الفراعنة ؟! أين القياصرة ؟! أين الأكاسرة ؟! أين فرعون ؟! أين هامان ؟! أين قارون ؟! .
أين من اغتروا بالكراسى الزائلة ؟! أين من فتنوا بالمناصب الفانية ؟!
أين من اغتروا بالأموال والعمارات ؟! أين من اغتروا بالسيارات والدولارات ؟!
أين الظالمون ؟!! أين التابعون لهم فى الغى ؟ أين من دوخوا الدنيا بسـطوتهم ؟!
وذكرهـم فى الورى ظلم وطغيان
هل أبقى الموت ذا عزٍ لعــزته ؟!
أو هل نجا منه بالسلطان إنسـان؟
لا والذى خلق الأكوان من عــدم
الكل يفنى فلا إنـــس ولا جان
قال جل وعلا : )كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(26)وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ( ، وقال : )كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ (
[ القصص : 88 ] .
مهما عشت فأنت راحل ، مهما أحببت فأنت مفارق ، مهما جمعت فأنت تارك .
فيا أخى الكريم : يا من أجلسك اللـه على الكرسى ، يا من هيأ اللـه لك المنصب .. ورب الكعبة - أبذلها بكل حب وإخلاص - إن الكرسى زائل وإن المنصب فان ، وإن الحى جل جلاله هو الباقى ، واعلم بأنك راحل .. فإياك أن تغتر بمنصبك ، وإياك أن تفتن بكرسيك فلا تستغل الكرسى إلا فى مرضاة اللـه وطاعته، واعلم بأن الكرسى إما أن يقربك إلى اللـه ثم الجنة بإذن اللـه ، وإما أن يبعدك عن اللـه ويقذفك فى النار والعياذ باللـه ، فاتخذ الكرسى وسيلة إلى جنة العزيز الغفار .
انظر أيها المسلم نظرة التمحيص إلى من سبقك لو دام الكرسى لغيرك واللـه ما وصل إليك . أيــا عبــدُ كَمْ يراك الله عاصياً
أنسـيت لقاء الله واللحد والثرى
لو أن المرء لم يلبس ثياب التقى
ولو أن الدنيا تدوم لأهلها
ولكنها تفنى ويفنى نعيمهـــــا
حريصـاً على الدنيا وللموت ناسيا
ويوما عبوساً تشيـب فيه النواصِيَا
تجرد عُرْيانـاً ولـو كان كاسيا
لكان رسـول اللـه حيا وباقيا
وتبقـى الذنـوب كما هــــى
وتدبر قول القائل :
يا نفـس قد أزف الرحيــــل
فتأهبى يـا نـفس لا يلعـب
فلتنزلن بمنزل ينسى
وليركبـن عليـك فيــــه من
قرن الفناء بنا جميعـا فــــــلا
وأظلك الخَطْـبُ الجليــل
بك الأمـل الطـويل
الخليـل به الخليل
الثـــــرى حمل ثقيـل
يبقى العـزيــز ولا الذليـــل
إنها الحقيقة الكبرى التى تعلن على مدى الزمان والمكان فى أذن كل سامع ، وعقل كل مفكر وأديب ، أنه لا بقاء إلا للحى الذى لا يموت ، إنها الحقيقة التى تصبغ البشرية كلها بصبغة العبودية ، والذل لقهار السموات والأرض إنها الحقيقة التى تسربل بها طوعا وكرها الصالحون والطالحون ، وشرب كأسها الأنبياء والمرسلون إنها الحقيقة الكبرى فى هذا الوجود بعد كلمة الإخلاص ، كلمة التوحيد ، كلمة لا إله إلا اللـه .
فيا أيها الأحبة الكرام :
إن الحياة على ظهر هذه الأرض موقوتة محدودة بأجل ثم تأتى نهايتها حتما ، فيموت الصالحون والطالحون ، يموت المجاهدون والقاعدون ، يموت ذو الاهتمامات العالية والغايات النبيلة ويموت التافهون الحريصون علىالدنيا بأى ثمن .
قال تعالى : )كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(26)وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ( [ الرحمن : 26،27 ] .
)وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ( . [ الزمر : 68 ] .أسأل الله العظيم أن يسترنا وإياكم يوم العرض عليه وصلى اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا والحمد لله رب العالمين